في تشرين الثاني 2016، استيقظت تحرير إدهام في المستشفى بعد تعرّض منزلها لقذيفة صاروخية في المدينة القديمة في الموصل. كانت تحرير قد فقدت الوعي عندما سقطت القذيفة على منزلها، وأسفرت عن مقتل زوجها وابنيها البالغَين آنذاك 8 و4 سنوات، فيما نجا ابنها وابنتها الآخران، اللذان كانا يبلغان 11 و6 أعوام.
بعد أن فقدت منزلها، اضطرت تحرير التي توفي والداها أيضاً في ذلك الوقت، إلى العيش مع حَمويها. وبعد أن بدأت تتعافى من الصدمة، أدركت تحرير أن البيئة هناك غير صحيّة لها ولطفليها. فقررت أن تبدأ بداية جديدة.
إثباتاً لقدراتها، اتخذت تحرير قراراً صعباً بترك طفليها لمدة عامين. وحين عادت إلى الموصل للعمل، لم يكن بوسع الناس فَهم ظروفها، سوى مُهيّة إدهام يوسف صاحبة معمل اليقين لإنتاج المواد الغذائية. كانت مُهيّة أيضاً قد فقدت زوجها وابنيها في الحرب، لذلك فهمت وقدّرت صمود تحرير ورغبتها في السعي نحو تحقيق حياة أفضل لها ولطفليها؛ إذ وجدت في تحرير نفس الشخصية المثابرة التي دفعتها إلى بدء مشروعها الخاص، بهدف توفير فرص العمل للأرامل والمطلقات.
لم تكتفِ مُهيّة بإعطاء تحرير وظيفة في محلّها، بل سمحت لها أيضاً بالسكن في غرفة صغيرة فوق سطح البناية، لكَي توفّر بعض المال وتأتي بأطفالها إلى الموصل. تقول مُهيّة: "الأزمات والمصاعب تقوّي عزيمة الانسان، وتعلّمه كيف يدعم ويعين الآخرين".
بينما كانت تحرير مشغولة بإعداد كرات العجين، كانت فصلة محمود (51 عاماً) في الغرفة المجاورة تقطّع الخضروات استعداداً لعمل أكلة الدولمة. كانت فصلة مشغولة بإعداد المكوّنات على عجل ثم انتقلت إلى غرفة أخرى لإعداد الأطباق. وكانت عائلة فصلة قد فرّت من منزلها في دهوك قبل تسع سنوات، إثر اشتباكات بين تنظيم داعش وقوات البيشمركة. واضطرت فصلة وعائلتها إلى العيش في مخيّم للنازحين لفترة وجيزة قبل أن ينتقلوا إلى مزرعة ما زالوا يعيشون فيها لقاء أدائهم لأعمال زراعية.
بعد مغادرتها لمعمل اليقين لإنتاج الأغذية، استقبلَت فصلة أسرتها بحفاوة في منزلهم المحاط بحقول خضراء وبساتين. "هذا ليس منزلنا" قال سليم، زوج فصلة. "ليتنا نعود إلى قريتنا". لكن فصلة وأسرتها وجدوا منزلهم مدمّراً تماماً حين حاولوا العودة قبل مدة. يقول سليم إنه ممتّن لعمل فصلة في معمل اليقين ومساعدتها في الحصول على دخل إضافي للأسرة؛ ويدرك ما معنى أن تنهض الأسرة وتبدأ من جديد.
في البدء، عندما أسّست مُهيّة معمل اليقين لإنتاج الأغذية، كان التحدي الأكبر أمامها هو المجتمع نفسه؛ حالها حال معظم رائدات الأعمال في العراق، حيث المجتمع لا يشجع المرأة على العمل بشكل عام، أو على إدارة مشروع تجاري. وكانت تدرك كيف يمكن للمعايير المجتمعية أن تتعارض مع احتياجات النساء اللواتي يُعِلن أسرَهن؛ ولهذا السبب سعَت وثابرت. وفي الآونة الأخيرة، تلقت مُهيّة منحة قدرها 10.000 دولار من صندوق تطوير المشاريع، سمحت لها بالانتقال إلى موقع أكبر؛ واشترت طبّاخات وثلاجات، ووظفت المزيد من العمال حتى زاد عدد العاملين لديها على 20 عاملاً.
بعد أشهر من إدخارها لبعض المال من راتبها، والسكَن في غرفة صغيرة فوق سطح البناية، استطاعت تحرير أخيراً أن تستأجر شقة لأسرتها. واليوم، تذهب ابنتها رَهَف البالغة من العمر 11 عاماً إلى المدرسة، بينما يزاول ابنها بيع الأجهزة في الموصل ويتمنى أن يفتح صالون حلاقة خاص به يوماً ما.
تنزوي رَهف بجانب مدفأة صغيرة في الشقة وترسم. على الجدار من فوقها، صورة لقوس قُزح، فيما قام شقيقها بلصق دوائر ورقيّة ملوّنة على الجدار الأبيض لجعل المكان أكثر حميمية.
تقول رَهَف أنها لن تنفصل مرة أخرى عن والدتها أبداً. تفتح حقيبة رسوماتها وترينا صورة لوجهَين مبتسمَين؛ لها ولوالدتها مكتوب عليها "أحبكِّ ماما، يا حياتي".