تجلس كالێ حسين وسط أكوام من العجين الموضوع على منصّات خشبية. حصلت كالێ مؤخراً على منحة قدرها 7.000 دولار من صندوق تطوير المشاريع، استخدمتها في تحسين محلّها بطلاء الجدران وتركيب أنابيب غاز جديدة سهلت على العمال الوصول إلى المواقد التي يستخدمونها لصناعة الخبز الهورامي.

من منصّة خشبية موضوعة على الأرض، تلتقط كالێ كرات العجين وتتناقلها من يد إلى أخرى حتى تتسطّح وتصبح قرصاً طريّاً ليّناً. من خلفها، يرّش نيان جبّار قطعاً صغيرة من البصل الأخضر على قرص العجين ويطويه إلى نصفين استعداداً لخَبزه، بينما تبسط تاڤگە عثمان (48 عاماً) عجينتها على وسادة خاصة تستخدم في تكبير القرص. تستغرق عملية الخَبز بضع ثوانٍ فقط، تُقلَّب خلالها الوسادة بالعجينة التي عليها فوق قرص معدنّي على نار هادئة، لتلتصق العجينة بالقرص وتُشوى على النار حتى تصبح رغيفاً ساخناً، لتلتقطه امرأة أخرى وترميه قربها بحركة سريعة، في سلّة أنيقة من الأرغفة الجاهزة للبيع.

تعمل هؤلاء النسوة معاً اثنتا عشرة ساعة في اليوم لستّة أيام في الأسبوع، منذ أن افتتحت كالێ المخبز قبل سبع سنوات.

وفي ذلك الوقت، كان زوج كالێ مقاتلاً ضمن قوات البيشمركة الكردية. وكان المخبز صغيراً في البداية؛ بيدَ أن سمعته الطيبة وجَودة الخبز العالية وسعره المناسب، أدى إلى ازدياد الطلب عليه.

في البدايات، كانت مساهمة كالێ في المخبز إضافة متواضعة إلى دَخل زوجها. لكن الحال تغيرت عام 2014 بعد أن أصيب زوج كالێ بإصابة إثر تعرّض وحدته القتالية إلى هجوم من بعض عناصر داعش في جلولاء، أدى إلى مقتل جميع رفاقه. ورغم نجاة زوج كالێ من الموت، إلاّ أنه الإصابة أقعدته في البيت طريح الفِراش لأربع سنوات، حتى توفّي عام 2018. فجأة، وجدت كالێ نفسها المعيل الوحيد لأسرتها المكونة من خمسة أفراد.

"إنها رائعة" تقول بيناي نوزاد (21 عاماً) عن أمّها كالێ. "إنها قوية جداً، وشكورة ولا تستسلم". أمضت بيناي، طالبة الهندسة في إحدى الجامعات القريبة، السنوات القليلة الماضية في العمل مع والدتها في المخبز حسب فراغها؛ وكذلك يفعل شقيقها بِنار، 17 عاماً. أمّا بيرێ إبنة كالێ الصغرى (9 سنوات) فتأتي إلى المخبز كل صباح قبل أن تذهب إلى المدرسة مع ابنة نيان، لايا (8 أعوام). تمسك الفتيات الصغيرات بأيدي بعضهن البعض عند عبورهن الشارع المرصوف بالحصى؛ وتتوقف بيرێ دائماً عند المخبز لعناق والدتها وتقبيلها.

تتميز مدينة حلبجة بطبيعتها الخلاّبة، عكس المناطق الجنوبية الصحراوية من العراق. وفي حلبجة تطّل نوافذ الشقق على الشوارع الضيقة المتداخلة داخل التلال. لكن حلبجة الجميلة ما زالت تعاني من آثار هجوم الأسلحة الكيمياوية الذي تعرضت له عام 1988 وأسفرَ عن مقتل 5.000 شخص.

واصلت تاڤگە صنع الخبز، متذكرة ذلك الهجوم على بلدتها حين كان عمرها 12 عاماً. كل ما تتذكره أن أسرتها اختبأت في قبو تحت المنزل. ورغم أنها لم تفقد أياً من أفراد أسرتها، إلا أن أبويها أصيبا بدرجات متفاوتة من العمى ومشاكل في القلب طيلة السنوات التي تلت ذلك الهجوم، وتاڤگە الآن هي التي تعيلهما.

يُعامل كل من كالێ وتاڤگە ونيان بعضهم البعض كأفراد أسرة واحدة. ويحتوي منزل كالێ على غرفة نوم واحدة لها ولأطفالها الثلاثة، وهي نفس الغرفة التي شهدوا فيها تدهور صحة والدهم حتى يوم وفاته، لكنهم لم يستسلموا للذكريات الأليمة، بل حرصوا على استعادة راحتهم داخل المنزل.

قبل سنوات، في الليالي التي كان فيها زوج نيان بعيداً عن المنزل بحكم عمله كضابط شرطة، كانت نيان وأطفالها الثلاثة يذهبون للنوم مع كالێ في فراشها. "لم يكن لدينا مال، لكننا كنا سعداء" تقول كالێ. نظرة واحدة إلى أولئك الأطفال الستة ووالدتيهما، تشعرك بدفء وحميمية المنزل.

تأمل كالێ ونيان في منح أطفالهما أنواع الفرص التي لم يحصلوا عليها. "أمي لا تفارقني، فهي بجانبي دائما" يقول شكار، 19 عاماً، الابن الأكبر لنيان. "إنها تفعل كل ما في وسعها لأجلنا".

أحدث القصص

أرسل لنا ملاحظاتك